إنشاء عن ما الحب إلا للحبيب الأول

الحبيب الأول من منا ينساه، من منا ينسى الحب الأول الذي دخل على القلب وهو جاهل لهذا الأمر من منا ينسى دقات قلبه الأولى ولمن خرجت، فالقلب ينبض وتخرج دقاته بأقواها عند مواجهة الحبيب الأول ومعرفة معاني الحب والأحاسيس والمشاعر معه، من منا ينساه وهو الحب الذي ارتجف له القلب لأول مرة فمهما دار بنا الزمان وطال بنا العمر فإنه كالذكرى التي لا يستطيع الانسان التخلي عنها، محفورة بالقلب لها مكانها الخاص، فالحب الأول هو الحب العفوي البريء بمشاعر صادقة.

ولذلك قال الشاعر أبو تمام:

نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ فلن ترى

مَا الْحُبُّ إِلاَّ لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ 

كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى 

وَحَنِينُهُ أَبْدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ 

 

الأكيد أن الجميع سبق له سماع هذه الأبيات الشعرية، لكن هناك من يراها وهما و سرابا، و هناك من يعتبرها حقيقة.

و يقول إحسان عبد القدوس عن الحب، ” في حياة كل منا وهم جميل يسمى ‘الحب الأول’، لا تصدق هذا الأمر فإن حبك الأول هو نفسه حبك الأخير’.

لكن ماذا إذا جاءَتْ رِياحُ الفراق وعَصَفَتْ بنا وفرَّقتنا عن الحبيبِ الأولِ؟ أيعني هذا أنَّ ربيعَ الحبِّ قد انتَهَى، ولن يأتي على أرضِنا؟

كلاَّ؛ فقد يَأتيالحبيب المُقبِلفي آخِر العمر أو مُنتصفه لا في بدايتِه؛ فالحبيب المُقبِل كالثمرة، والثمرة لا تأتي في بِداية الزرع.

بل تجد أنَّ النَّبتَة تكون في بِدايتها رقيقةً صغيرة، تُساعِدُها الأرضُ بنموِّها والماء في رَيِّ عطشها.

ويأتي عليها الصيف والخريفُ والشتاء، وتمرُّ بها أيَّامُ المِحَنِ والعَواصِف والجَفاف، إلى أنْ تَكبر شيئًا فشيئًا وتَقوى.. حتى إذا قَدِمَ الربيع جاءت الثمرة.

وكذلك يُثمِرُ القلبُ بالحب، فالحبيب المُقبِل كالثمرة، تأتي في الأخير وتَعيشُ مُدلَّلةً في الربيع، في ربيع القلبِ وفي وَسَطِه، ويكونُ حالُ الحبيبِ المُقبِل كما قالَ الشاعر:

مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ 

تَمْشِي رُوَيْدًا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ 

يقول الشاعرديك الجنردًّا على أبياتأبي تمامالتي ذكرتُها في بداية الموضوع:

كَذَبَ الَّذِينَ تَحَدَّثُوا فِي الْهَوَى 

مَا الْحُبُّ إِلاَّ لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ 

مَا لِي أَحِنُّ إِلَى خَرَابٍ مُقْفِرٍ 

دَرَسَتْ مَعَالِمُهُ كَأَنْ لَمْ يُؤْهَلِ 

 

شبَّهَ الحبيب الأوَّل بالأرض الخربة التي انمحت آثارها، حتى كأنها لم تكُن مَأهولة من قبل، فكيف يحنُّ الإنسان ويَشتاق إلى الخَرابة؟!

ارْغَبْ عَنِ الْحُبِّ الْقَدِيمِ الْأَوَّلِ 

وَعَلَيْكَ بِالْمُسْتَأْنَفِ الْمُسْتَقْبَلِ 

نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى 

كَهَوًى جَدِيدٍ أَوْ كَوَصْلٍ مُقْبِلِ 

هذا رأي وفِكرديك الجن، ويُوافقهُ شاعرٌ آخر.. يقول:

افْخَرْ بِآخِرِ مَنْ كَلِفْتَ بِحُبِّهِ 

لاَ خَيْرَ فِي الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ 

أتَشُكُّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا 

سَادَ الْبَرِيَّةَ وَهْوَ آخِرُ مُرْسَلِ 

وكلامُ هذا الشاعر مَردودٌ عليه؛ صحيحٌ أنَّ حبيبَنا محمدًا – عليه الصلاةُ والسلامُ – هو سيِّدُ البشريَّة، لكن كيفَ نُنْكِرُ فضلَ باقِي الأنبياء قبله – عليهم جميعًا أفضلُ الصلاةُ والسلامُ – ونَنفِي الخيرَ عنهم، فكيف نُنكِر خيرَ الحبيبِ الأوَّل؟! ومَن قالَإنَّنا يجب أنْ نَنْسَى الحبيبَ الأوَّل إذا أحببنا بعدَه؟!

كلا، لا نَنساه، ولكن قد نُحِبُّ غيرَه مع بَقاء حُبِّه في قلوبنا، وليس هناك أيُّ تَناقُضٍ أو تَعارُضٍ في هذا الأمر.